لم يعد النظر إلى شأن «الحصول على السعادة» فقط من اختصاص أهل التربية والفلسفة والتوجيه والإرشاد في الجوانب العقائدية والاجتماعية، بل أصبح علم الطب، بشقيه البدني والنفسي، معنِيًّا بهذا الأمر، بدرجة أعمق كثيراً مما يظن الكثيرون.
ولعل التذكير بدراسة الباحثين النفسيين من جامعة إيراسماس، في روتردام في هولندا، يختصر لنا الكثير من الرؤية الطبية في التأثير الإيجابي للسعادة على صحة الإنسان.
ووفق ما تم نشره في عدد أغسطس (آب) لعام 2008 من مجلة «دراسات السعادة»، قام الباحثون بتحليل نتائج 30 دراسة متابعة حول دور السعادة في حماية صحة الإنسان وحياته.
وبالمُحصّلة قال الباحثون كلاماً من «العيار الثقيل»، إذْ وجدوا أن الحجم المُقارن لتأثير تحقيق السعادة، أو عدم تحقيقها، على الحالة الصحية لإنسان ما ـ وخاصة في جانب مقدار طول عمره ـ يكافئ حجم التأثير الصحي للتدخين أو عدم التدخين!، أي بعبارة أخرى .. إن أهمية الحرص على تحقيق السعادة تُشبه أهمية الامتناع عن التدخين.
والكثير من الناس يتعلّق بالمال، ويُفني العمر في البحث الدؤوب عنه، و«تحفى قدماه»، ويُصيب القحط «ماء وجهه» في سبيل النجاح في خَزْن المزيد منه في رصيد البنك.
والسبب الرئيسي لهذا الحرص على امتلاك المال، هو أنه «العنصر» الذي تتحقق به السعادة، و«العامل» الذي سيجلب ما فيه الرضا في الحياة.
ولو مشينا قليلاً مع هؤلاء «الكثرة»، تظهر التساؤلات التالية:
- بعدما تجري كمية من المال، كثيرة أو قليلة، بين أيدي شخص ما، هل تكون سعادته أكبر حينما «يشتري» لحظات جميلة بهذا المال، أم حينما «يشتري» به أشياء عينية مادية؟
- وهل سعادة الإنسان تتحقق في سعيه لامتلاك أشياء يطمح إليها؟، وعليه؛ فإنه سيرضى ويسعد حينما تكون بحوزته، أم أن سعادة هذا الشخص مبعثها الرضا بما يمتلكه ويتوفر لديه؟، وعليه؛ فإن سعادته ستتحقق حينما يملأه الشعور بـ «التقدير للنعمة» التي هو في ظلها.
ولأن للنفس طِبًّا يبحث ـ دونما ملل ـ فيما فيه صحتها ومرضها، دعونا نُراجع ما تقوله نتائج الدراسات النفسية حول هذين السؤالين.
في السابع من فبراير الحالي ألقى الباحثون من جامعة سان فرانسيسكو نتائج دراسة مهمة لهم ضمن اللقاء السنوي لـ «مجمع علم نفس الشخصية والمجتمع» بالولايات المتحدة.
وفي دراستهم، قام الباحثون باختبار تأثير كل من «شراء» أوقات جميلة، مثل تناول العشاء في مطعم، أو حضور إحدى المسرحيات أو عروض الأوبرا، وذلك بالمقارنة مع «شراء» أشياء عينية جميلة، كسيارة «تأخذ العقل»، أو فيلا في الريف، أو حُلي مرصعة بالمجوهرات.
وما توصل إليه الباحثون هو أن سعادة الإنسان، ومنْ يعيشون حوله، ستحقق بشكل أكبر عند استخدام المال في شراء خبرات وذكريات حياتية جميلة.
وهذا الشعور بالسعادة سيرفع من الإحساس بالصحة والعافية، وذلك بمقارنة تأثيره على الشعور بالعافية والصحة عند استخدام المال في سبيل امتلاك أشياء عينية قيّمة.
وعلل الباحثون هذه النتيجة بأن الأولوية في الاحتياجات لدى الإنسان للشعور بأنه كائن حيّ مفعم بالنشاط والصحة، هي في حصوله على حيوية التواصل والترابط الاجتماعي.
وقال الدكتور رايان هاويل، الباحث المشارك في الدراسة «لا يزال الناس يعتقدون أن كثرة المال ستجعلهم سعداء بشكل أكبر، بالرغم من النتائج العلمية للدراسات النفسية التي تم إجراؤها طوال 35 سنة مضت، والتي تقول بعكس ذلك الاعتقاد.
ولعل سبب استمرار وتماسك هذا الاعتقاد، هو أن المال يجعل بعض الناس سعداء لبعض الوقت. وإنْ كان المال سيُعطي السعادة، فإن ذلك يكون عند إنفاقه للحصول على لحظات وخبرات حياتية تُعطي ذكريات واضحة.
ونحن، كبشر، لا نملّ من تكرار تذكُّر ما حصل لنا من الذكريات السعيدة، بعكس مَلَلِنا من تذكُّر الأشياء المادية العينية التي حصلنا عليها». انتهى كلامه.
ومما يتردد من أقوال الحكمة، أن السعادة لا تتحقق فقط بالسعي الحثيث لامتلاك أشياء جديدة يُحبها الشخص، بل إن قسطاً كبيراً من السعادة يُمكن تحقيقه إذا ما أحب ورضي الإنسان بالأشياء التي يمتلكها بالفعل.
وفي إبريل (نيسان) من العام الماضي نشرت مجلة «الرابطة الأميركية للعلوم النفسية» نتائج دراسة الباحثين النفسيين من جامعة تكساس تيك حول هذا الأمر.
وقام الباحثون باختبار امتلاك شريحة من طلاب الجامعة لـ 52 شيئاً مختلفاً من الأشياء العينية، كالسيارة والاستريو والسرير وغيرها.
وبالمحصّلة، قال الدكتور جيف لارسن، الباحث الرئيسي في الدراسة، والمتخصص في علم النفس «ببساطة، إن امتلاك مجموعة من الأشياء ليس مفتاح السعادة.
وبيانات نتائج دراستنا تُظهر أهمية عنصرين في السعادة: أولاً، تقدير أهمية الرضا بتلك الأشياء التي يمتلكها الشخص بالفعل. وثانياً، الإبقاء على الرغبة والسعي في امتلاك أشياء أخرى جديدة».
وأضاف الباحثون أن الأشخاص الراضين بما يمتلكونه بالفعل ويطمحون إلى المزيد منه، هم أكثر سعادة من الأشخاص الغير راضين بما يمتلكون، الذين لا يطمحون إلى المزيد من نوعية الأشياء التي يمتلكونها.